إنه من أشد أنواع التأكيد(1) ، فالمسلم يقسم بخالق الكون وبارىء النسم أن ما يقوله أو يقرره صدق لا جدال فيه ، سواء أكان ذلك سلباً أم إيجاباً .
والقسَم طريقة من طرائق الإقتناع والوصول إلى إرضاء المخاطب والدخول إلى نفسه ، وجلاء الشك فيه .
وقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الطريقة لإقناع المسلمين ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( . . . والذي نفسي بيده ، لقد هممت أن آمُرَ بحطب فيُحتطب ، ثم آمُرَ بالصلاة فيؤذنَ لها ، ثم آمر رجلاً فيؤمَّ الناس ، ثم أخالفَ إلى رجال فأحَرّقَ عليهم بيوتهم (2) . . ))
فالرسول الكريم يوضح مكانة صلاة الجماعة ، وينعى على الذين يهملونها كسلاً ، ويؤكد أنه همّ عدة مرات أن يعاقبهم ، فأقسم بالله سبحانه وتعالى وهو الصاق الصدوق الذي لا يحتاج إلى القسم أنه كاد يعاقبهم على تخلفهم عن صلاة الجماعة .
وأقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم القسم نفسه على شدة هول يوم القيامة ، وما أعد الله للكافرين من العذاب ، وذكر أن الناس غافلون عنه ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال :
خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه يضحكون ويتحدثون ، فقال : والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، ثم انصرف وقد أبكى القوم(3) .
وفي معرض وجوب اتباع سنته والسير على منهجه صلى الله عليه وسلم ينهي عن التنطع في الدين ، لأنه يسر .
تروي عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ ! . . فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية(4) .
فقد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أعرف الناس بالله تعالى ، وخشيتُه لله سبحانه إنما تأتي من معرفته الحقةِ له ، ويعْرفُه من بعده العلماء العاملون
( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(5) . ولا ينبغي لمؤمن بالله ، مسلمٍ متبعٍ للرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون مثله في عبادته .
وحين يرى عاملَه يأتي بالزكاة ويقتطع لنفسه شيئاً يزعم أنه أهدي إليه ، يوبخه صلى الله عليه وسلم ثم يعلو المنبر موضحاً أن ما يأخذه العامل غير أجرِه إنما هو رشوة يحاسب عليها يوم القيامة ، ويقسم على ذلك لتأكيد هول الموقف وخطورة أخذ الرشوة .
يروي أبو حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . . . . . والذي نفسي بيده ، لا يأتي بشيءٍ إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر(6) . . . .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما
فقال : ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟
قالا : الجوع يا رسول الله .
قال : والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما(7) . . . ( والحديث طويل )
فالرسول صلى الله عليه وسلم يتحبب إليهما ، وأنه خرج لِما خرجا له ، ويقسم على ذلك .
وهكذا نرى أن القسم جاء تأكيداً للمعاناة التي يعانيها الصحابة من جوع وشظف عيش ،، وتصويراً لاشتراك الجميع فيها ، دون أن يحتاج صاحبه للقسم عليه .
وكثيراً ما كان العرب يستعملون القسم لا لكبير حاجة ، إنما هو أسلوب من أساليبهم .
ومن بديع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامعة : الحديث الذي صدّره بالقسم ليشد الانتباه إليه والتفكير فيه ، مع استحضار اليقين . ثم يصورُ أربعة أنواع من الناس ، تجمع كل اثنين منهم النية ، لأنها مفتاح الجنة أو النار :
فعن أبي كبشة عمر بن سعد الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( ثلاثة ( أقسم عليهن ) وأحدثكم حديثاً فاحفظوه :
ما نقص مال عبد من صدقة .
ولا ظُلِمَ عبدٌ مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً .
ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ، ( أو كلمة نحوها ) ، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه عني : " إنما الدنيا لأربعة نفرٍ :
1 عبدٍ رزقه الله مالاً وعلماً ، فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل .
2 وعبدٍ رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادق النية ، يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان ، فهو بنيّته ، فأجرهما سواء .
3 وعبدٍ رزقه الله مالاً ، ولم يرزقه علماً ، فهو يخبط في ماله بغير علم ، ولا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقاً ، فهو بأخبث المنازل .
4 وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً ، فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو نيّته ، فوزرُهما سواء(8)
الهوامش:
(1) لا يحل لمسلم أن يقسم إلا بالله .
(2) رياض الصالحين ، باب فضل صلاة الجماعة ( متفق عليه ) .
(3) الأدب المفرد الحديث / 254 / .
(4) متفق عليه .
(5) سورة فاطر : الآية 28 .
(6) رواه الشيخان .
(7) من رياض الصالحين الحديث / 495 / .
(8) رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح .